هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ابداء من جديد--Show again--Remontrer
علمتني الحياة … ان لكل بداية نهاية … و بعد كل نهاية هناك بداية جديدة. لا يفصل بينهما الا لحظة . و بتلك اللحظة لا بد لنا من الانهيار الى حطام فالعدم … الى لا شيء. ...
السلام عليكم ورحمة الله اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى،كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا اذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
[ أن تفارق من تحبه باختيارك قرار ينتزع روحك من جسدك ويقمع قلبك عن النبض، ويحبس أنفاسك عن الحياة، لكنك تبرر أنك ما اقتلعت قلبك إلا لتهبه للآخر تضحية منك وإيثار ].
وهكذا كان قرار (روان) حينما انتهت مع من تحبه إلى طريق محكوم بشقاء أسرة، اختارت الهجران...
فكيف بدأت قصتها وأين مكامن النجاح فيها؟
اتصلت (روان) في صبيحة أول أيام سبتمبر بمدير تحرير مجلة ((الثقافة)) فقد بعثت قصائدها لمرات عدة ولم تُنشر مستعلمة بحماس عن سبب تأخر نشرها، فلربما كانت غير لائقة أو دون المستوى، بقيت لأشهر طويلة تنتظر أحرّ من الجمر وتخرج إلى المكتبة في مطلع كل أسبوع من إصدارها تتصفح الأوراق وعيناها تلتهمان السطور بلهفة لعلّها تقرأ ذلك الاسم ((روان عبد الحميد)) ويأتيها صوته الوقور جاداً ((ربما ضاعت في البريد، لم أستلم أية رسالة بهذا الاسم، لهذا تفضلي لعرضها علينا في مبنى المجلة)).
اطمأنت فظنها بنفسها حسن، كفاءة واقتدار، عادت إلى أدراج مكتبها لتجمع النسخ وتطير بها إلى مدير التحرير، وطوال الطريق كانت تحدث نفسها بحلمها البكر أن تطبع ديوانها الأول وتجتاز ذلك المعبر الخانق نحو شاطئ الخلاص فأهلها متزمتون يبخسون حق الفتاة في أن تكتب شعراً، محاصرة بطوق من العقول المسطحة وهي الياسمينة الأزهرية يتضوع لسانها عبيراً وشعراً، تتجافى عيناها عن النوم هماً فسياط الغربة لا ترحم واعتقال الإبداع أمر مرير.
أركنت سيارتها أمام المبنى وهبت كنسمة ربيعية أمام قاطع زجاجي يجلس خلفه العاملون في المجلة.. جاءته تمشي على استحياء وخفر، انحنى لها احتراماً وإجلالاً:
((تفضلي)) أشار إلى المقعد الخالي أمامه.
وضعت (روان) أوراقها بارتباك فقد غلبتها مهابته.
((منذ متى تكتبين الشعر؟))
يسألها وهو يتصفح الأوراق، كأنه يستقرأها كلمات، شردت في تفكيرها مسترجعة الذاكرة البعيدة من أغوارها السحيقة ثم استطردت:
((منذ بدء التكوين، منذ صرخة الميلاد وأنا مغتربة، تسكن أعماقي أنثى مضطهدة فإذا بصوتها المذبوح يئن شعراً))
((ربما لأني أريد اكتشاف صدق مشاعرك، فإن إلقاءك يلوّن هذه التعابير ويلحن الكلمات ويبرز ملامح إحساسك)).
اكتنفتها رغبة في تحدي ترددها وحسم موقفها فلتثبت ذاتها وتبرهن أن شعرها إيمان وليس فورة انفعالية وحسب.
استعدلت في جلستها وشدت كتفيها وتنحنحت لتصرف الحشرجة عن حبال صوتها، وبعد وقفة قصيرة قرأت القصيدة فإذا بها تنفصم عن حيزها المادي وتغيب في الفراغ ومحيّاها يتناغم مع إيقاعات القصيدة، وتغدو مقلتيها جمرتا حزن تشهقان الألم مع كل رفة جفن، وبعد فراغها أطرقت صامتة تسترد روحها الغائبة إلى حالة الوعي.
((لِمَا كل هذا الحزن؟)) سألها متعاطفاً.
شدت نفساً عميقاً وهي تتلفت حولها في دهشة كأنها تائهة ضلت الطريق ثم حدجته بنظرة عميقة مستدركة:
((لأول مرة أُسأل بهذا العمق ويقتحم إنسان غريب حصوني)).
ثم وجهت له سؤالاً ضائعاً يتضمن كثيراً من المعاني:
((من أنت؟ وماذا تريد مني؟)).
اختصر المسافة وبثقة حدد موقفه:
((الأرواح حينما تتلاحم لا تستأذن، إنها منجذبة لبعضها بخواص كيميائية لا تحتكم بعقل ولا تخضع لمنطق)).
تسمّرت كالمأخوذة، ثم انبرت تقول:
((إنها منطقة محظورة وطريق وعر فيه مجازفة)).
تهيأت لتنصرف.
استوقفها:
((تمهلي أرجوكِ))
وعند الباب التفتت نحوه تباغته ببيت شعر عرف مغزاه:
((وقصائدي لا تنساها ففيها حياتي وفيها مماتي)).
تجهم متأسفاً على رحيلها، ثم عبر بصوت مخنوق:
((أعدكِ أنني سأصون حياتك عهداً حتى الموت)).
هربت من عينيه، من حصاره، من اقتحامه المتطفل وترك غيابها وحشة في قلبه، فأخذ يدور حول نفسه في المكتب، جاءته السكرتيرة محملة بالأوراق تنتظر إمضائه، ركنها جانباً، اعترضت:
((أستاذ إنها ضرورية))
((دعيها الآن فأنا منهمك في التفكير)).
تشاغله (روان) فتنعطف بذاكرته نحو زوجته (لُبنى) وشخص الفارق الكبير بين صنفين من النساء تأخذانه في اتجاهين متضادين، زوجته الطاردة لكيانه الإنساني من الاعتبار، وروان الجاذبة بسحرها الأخاذ ورقتها الباطشة، في لحظات قصار استفاقت من أعماقه مشاعر كامنة اعتقلتها سنين الغربة والوحدة.
والتقيا على مرفأ حب يهيمان لوحدهما في كوكب علوي يتناجيان في انعتاق روحي غيبهما عن العالم وكونا لقلبيهما عشاً تنمو فيه كل يوم زنابق وسنابل وياسمين، شعرت روان بتبدد أشباح الظلام عن قلبها الدامس فقد أضاءت قناديل المحبة نور الأمل في حياتها، عملت محررة في المجلة الثقافية وهيمن (مراد) على حياتها سيداً آمراً ناهياً، وضرب حولها حصناً من الولاية الذكورية لتبقى محميّة تحت وصايته، غمرها بحنانه وعطفه وحقق حلمها الذي راودها طيفاً في لياليها، طبع ديوانها الأول ((همس الظباء)) وجهز لها حملة إعلامية مكثفة لتسويقه، لمع اسمها شاعرة عبقرية طورت لغة الشعر وطعمته بنكهة روحانية تدفع القارئ أن ينسلخ عن تكوينه الجسدي ويرفل في العالم العلوي محض روح، ودفق المشاعر يمور بين قلبيهما، قلبها الباذخ حباً يطوي عذاباته بين جناحيه حناناً ويربت على قدره مطمئناً أنها ملكه، كيانه، حبه الأوحد، عهد لا تنفصم لحمته ولا تبدد الأيام قدسيته، وهو طوع بنانها، يستميت لإرضائها، لاستغاثتها، فعوضها عن ليالي الحرمان والوحدة القاسية.
قالت له ذات أمسية ماطرة جمعتهما شتاءاً وكل ذرة في كيانها خاضعة ((فراقنا يعني قطع شريان حياتي، نهايتي، فقد عرفت معك معنى الأمان والسكون النفسي والطمأنة المفقودة في حياتي)).
وقال لها مناجياً:
((وليتك توافقين على زواجنا بسرعة لأوثق هذا الحب برباط مقدس، فلا يهدأ لي بال أو يستقر لي حال ونحن هكذا مفترقان دون وصال شرعي)).
أجفلت خائفة:
((لا.. ليس الآن، تعرف أن أهلي يرفضون ارتباطي برجل متزوج، اترك للزمن الفرص والمخارج لأزمتنا فقد اختبرت أمي ووجدتها معترضة بشدة، وأنا في حيرة من أمري، أرفض كل من يتقدم لي خاطباً متذرعة بدراستي وطموحي، فقلي يهواك ولا يرغب بسواك)).
وتشتد اللوعة، ويفتك بهما الحرمان، منصهران بهذا الحب الجارف ينهش روحيهما كالنار في الهشيم، وهما يتعففان عن المنكر، يتورعان عن الفاحشة متترهان بعاطفة عذرية جامحة.
ويأتيها هاتف صاعق يهزها من الأعماق:
((أنا لُبنى زوجة مراد، أرغب في التحدث إليك بشأن خاص وفي منتهى السريّة)).
تسمّرت (روان) مذهولة، حاولت أن تكبح انفعالاتها، تلعثمت في حلقها الكلمات، انشلت أطرافها وأيقظها صوت المرأة يأتيها مرتعشاً:
((أرجوكِ إنها مسألة حياة أو موت)).
والتقتا الزوجة والحبيبة في مقهى هادئ بعيداً عن ضجيج المارة.
ولأول مرة تقفان وجهاً لوجه تبادلتا نظر الاستكشاف الغريزي في الأنثى حينما تبحث في غريمتها عن مساحة مغمورة لم تعلن عن نفسها بعد وتركت لرجلها حرية الغوص المحبب..
كانت زوجته لوحة بائسة، في تقاطيعها حزن معتق ومرارة دفينة أشفقت عليها (روان) وانكمشت في مكانها خجلاً تحاول أن تقمع حبها العربيد قبل أن ينفلت من قيده فيبتلع ما تبقى فيها من وعي وحضور.
نكست رأسها بذل، فهي متهمة في عرف الزوجية المخدوعة.
((أنا رهن أمرك))
واستعبرت عينا (لُبنى) فإذا ببوحها حزن وكمد:
((ارحميني فأنا يتيمة الأبوين وليس لي في الدنيا غير مراد، لقد تغير في معاملته لي، لم أعد ألقاه أبداً، إنه حاضر الجسد لكنه غائب الروح، وانفصلنا في الأيام الأخيرة عن بعضنا كل منا ينام في غرفة خاصة، بدا متعكر المزاج، عصبياً، متذمراً، قاسياً في نقده، جارحاً في اتهاماته)).
مسحت طرفها وبدت متلاشية في انكسارها المهين، تتابع غصتها سهاماً سامة ترشقها في قلب (روان) قصداً وإيلاماً.
رفعت روان يدها معترضة:
((أرجوكِ كفى... لا تكملي)).
تجلدت وهي تصدر حكمها الذاتي إعداماً لقلبها البكر
((والمطلوب أن أهجره)).
((أرجوكِ فأنا أم أولاده، أحتاجه أكثر منكِ، حبك دمر بيتنا، فك أواصرنا، حلّ لحمتنا، أنتِ شابة فتية والمستقبل زاخر بالفرص فلِمَا تقحمين نفسك داخل أسرة متكاتفة وتسببي لنا التعاسة والشقاء)).
((لا.. لن أكون سبباً في شقائكم وأعدكِ أنني سأختفي من حياته، سأقتلع قلبي، سأدفن حبي في مقبرة النسيان، ثم رفعت روان عينيها إلى لُبنى متسائلة:
((وكيف عرفتِ قصتنا؟)).
((لقد صارحني برغبته في الزواج منكِ قبل فترة))
وقفت روان كالملدوغة وانصرفت دون أن تودع لُبنى بسلام وألقت نفسها في سيارتها تجتاحها عاصفة من الدموع، ممزقة، محطمة، قد هشمت الحقيقة كل معاقل أحلامها الصامدة طوال هذه السنين، خمس سنوات من عمرها تبددت كالسراب، تلاشت كدخان، وذلك الأمل الموعود قد وأد في المهد وهو حياً.
ابكي يا روان، ابكي فلطالما كانت قصائدك بكائيات تُنعي أحلامك المنحورة على مذبح الخيبات.
ستقرر قرارها القاتل وستخنق قلبها حتى يلفظ أنفاسه، لن تعرض عليه الأسباب، ستتركه في حيرته، موسوساً، متشككاً فيظن بها السوء ويكرهها، انهضي يا إرادة من سباتك واحزمي أمرك قبل فوات الأوان، إنه الاقتدار الملهم تصنعه قريحة المبدعين فيختزلون تجارهم المأسوية قصائد وروايات.
المحاولة الأولى أن تقدم استقالتها من المجلة وكان التصميم في محله، مشاعر تتصنع قسوة، مفتضح تكلفها.
((مللت الانتظار ضاع العمر سدى، وتبدد شبابي في الوهم)).
تهتز جوارحه استياءاً:
((روان.. ما بكِ انقلبتِ بهذا الشكل؟))
وتفتعل البرود:
((فترت عواطفي)).
انهار على مقعده:
((لستِ بروان، لا أصدق ما أسمع)).
فرَّت من عينيه وقبل أن يقفز قلبها من جوفها المتعب فيفضح حقيقتها، انطوت على هم وكمد، غيرت أرقام هواتفها وكابدت الذكريات معه على جمر الألم، سقطت طريحة الفراش، ذابلة العود، مصفرة الوجه.. متهالكة على أثر لصوته ينعش روحها الميتة والطبيب لا يجد لعلتها سبب عضوي، إنما هي النفس الذبيحة قربان وفداء لسعادة أسرة.. هكذا ينتظر العرف منها، ويحكم قانون البشر (فأنتِ دخيلة، خائنة، مجرمة)، أمها، أبيها، أخوتها القساة قد ذوب قلوبهم أنينها المنخور في العظم كالداء يتضرعون إلى الله كي تسترد عافيتها فغدت شبح هزيل إلا من عينين واسعتين تضيئان الأمل في ليل الآخرين وفتيلها دمها المحروق ودموعها الساكبة، وتقرر السفر إلى بيت الله معتمرة، لتتوحد مع ربها في مناجاة عميقة وابتهال ليلهمها الصبر، ليشد على يديها المتراخيتين عن التصميم لتنطلق في قرارها دون رجعة، تقاوم حنينها، وتعصف بها الأشواق كلما لامس طيفه ذاكرتها الخابية فينتفض القلب وتتجدد الذكرى فتغدو إلى التلفون لتهاتفه، لتعلن عن توبتها عن الهجر، لكنها تنطفىء كلما تذكرت توسلات زوجته ورجاءها الذليل، فترجع مقهورة، تخذلها الحقيقة ويحبطها الواقع.
ألقت نفسها في بحر الشعر تغوص فيه غرقاً، لتنسى، تصطلي صفحاتها البيضاء بنيران نكبتها، مشاهد مصورة لمعاناتها فراق، لقاء، شوق، حنين، عتاب، تختزل مشاعرها الفوّارة قصائد مطرزة بالوفاء والعرفان لإنسان صدق في وعده، وأوفى عهده، ويسيل مدادها المحزون مع فورة الشوق الباطشة وكأنه مخزن يحترق مع طلة قصائدها.
كم أنتِ قاسية يا روان، ألم تفكري بمراد، وما حل به من عذاب، لابد من الوجع حينما نبتر عضواً طالما كان فيه إنقاذ لجسد كامل من التهلكة، وهي قد بترت قلبها لتنقذ أسرة.
صادفته ذات صباح يتبعها في سيارته وهاج بها الحنين فانعطفت ناحية مقهى مشيرة إليه أن ينزل وباندفاع هستيري ترك سيارته وسط الزحام بإهمال لا واعي وانطلق مسعوراً بشوقه يسابق الثواني واللحظات قبل أن تفر الأمنية من يديه وجلسا على المائدة، كانت (روان) هادئة قد سكن حزنها سكون الجمرة تحت الرماد.
بادرته:
((أرجو أن تكف عن ملاحقتي لأني مخطوبة الآن وأعتقد أن قراري كان صائباً، فإلى متى أنتظر وأهلي يرفضون هذه الزيجة)).
استاء إذ هوت بآماله إلى القاع
((خذلتيني يا روان، فأين وعودك وعهودك أذهبت أدراج الرياح؟!))
تمالكت نفسها وبررت:
((لقد وهبتك قلبي لتعش سعيداً في بيتك هانئاً بين أسرتك، لا أرضى أن أبني سعادتي على تعاسة أحد)).
رحلت عنه بعد أن صفعته بقسوة، صفعة محبة فيها حياة إذ استشرفت المستقبل ببصيرة واعية وتداركت الموقف قبل أن يحل الدمار فإن له زوجه متهالكة عليه قد يجن جنونها فإذا بغيرتها إعصار.. أيقظته من الحلم الجميل والوهم العذب حينما يأخذنا الحب إلى فردوس الخيال ونجحت (روان) شاعرة صاغت تجربتها قصائد شعر فطبعت ديوانها الثاني ((وهبتك قلبي)) ونجحت في تجربة الفراق بعد تصميم وإرادة.