هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ابداء من جديد--Show again--Remontrer
علمتني الحياة … ان لكل بداية نهاية … و بعد كل نهاية هناك بداية جديدة. لا يفصل بينهما الا لحظة . و بتلك اللحظة لا بد لنا من الانهيار الى حطام فالعدم … الى لا شيء. ...
السلام عليكم ورحمة الله اهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى،كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا اذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
[بيت كالصحراء قاحل، ناضب، تنبت فيه اقحوانة مفعمة بالأسرار متورطة بنسوة تجمدت في عروقهن دماء الحياة حينما توهمن أن الفناء في أول شعرة بيضاء وألقين ظلالهن القاتمة على ((سمرة)) فوسمنها بميسم الكبر والكهولة لكنها انتفضت، وتمرد العربيد داخلها ليكشف عن صبية مترعة بالنشاط والحيوية].
تخرجت (سمرة) من الجامعة وقدمت على وظيفة (معلَّمة) في مدرسة بنات، كل من حولها من فتيات الأسرة تزوجن وأنجبن وبقيت لوحدها تترمض على جمر الوحدة والحرمان، ونظرات الإشفاق تندلع كنيران حارقة تلسع فؤادها المكروب.
((مسكينة قد فاتها القطار!)).
أخواتها الصغيرات يتنازعنها لرعاية أطفالهن في وقت انشغالهن مبررات ((أنتِ فارغة لا زوج ولا ولد!)).
وأمها تستبيح راتبها في إعمار البيت وشراء متقنيات الأسرة قائلة بقسوة:
((ولمن تدخرين الراتب وأنتِ وحيدة!)).
تقف (سمرة) أمام هذا الإعصار المستبد منطفئة الأمل، يائسة الأحلام، فقد خط الشيب خطوطه البائسة على شعرها الفاحم، دميمة عافتها العيون الباحثة عن عروس، وهجرتها النفوس التواقة إلى ولود، كبرت وجفت مواردها وانكسرت أنوثتها على مشارف الأربعين، اغتالت داخلها كل حلم جميل ونبضة شوق لرجل، وهي كالأرض البور مجدبة جافة يبست أعماقها ونضبت مناهلها.
وهمها يحفر داخلها عقدة نقص تنهش فيها غيرة فتاكة تثور بانفعال هستيري متى ما مس أحد وتر الزواج أو الحمل، ويأخذ جسدها في السمنة والترهل ويشتد إحساسها بالجزع واليأس، تنكب في وحدتها المضنية على مشاهدة الأفلام الرومانسية وقراءة الروايات العاطفية، تتضور عاطفة ساحقة وتظن أنها بهذه المسكنات تقهر جوعها القاسي.
ويجن عليها ليل الغربة وكل خلية في دمها تصرخ مستغيثة من ظلم أم جحود وأخوات بليدات، مجروحة أينما اتجهت، مهانة كيفما فعلت، وكأن الزواج جواز مرور إلى دنيا السعادة وإلا فالعانس كما يصفونها منبوذة في العدم.
جردتها الأم من كل عوامل القوة وأذعنت في ذبح كبرياءها مستهينة بقدراتها الذاتية وعنفوانها الأنثوي قائلة باستنكار:
((مهما نجحت الفتاة فلا قيمة لها دون زوج)).
وتنكفئ (سمرة) بحزنها وأساها منزوعة القيمة والقدر تأخذها حيرة كئيبة ((ماذا تفعل لتخرج من هذه البيئة الموبوءة التي ترهن قيمة الأنثى بحالة زواجية وإن خالفها القدر حكم عليها بالإعدام، تتمنى لو تتزوج لكن كيف السبيل إلى ذلك والأبواب مؤصدة، يئست من أمرها واستسلمت لمصيرها فقد بلغت من ا لعمر ما جعل الرجال يتورعون عنها ويغادرونها إلى أخريات أكثر وفرة وخصوبة.
لجأت إلى الخاطبة تغدق عليها المال بسخاء كي تشق لها بصيص نور وسط ذلك الظلام الدامس، بيد أن الخاطبة تستدرجها في طمع حتى أدركت الفخ، وها هي سنين الوحدة تأكل مخزونها وترسم أمائر البؤس والشقاء على محيّاها.
فكرت في أمرها طويلاً حينما استبد بها الجزع وبحثت عن مخرج لأزمتها الطاحنة، وكان قرارها أن تترك جو المدرسة الخانق وتلتحق في وظيفة إدارية تبعث في أعماقها شيئاً من الحيوية وكان الاختيار مركز بحثي في الوزارة باشرت في الإجراءات دون إبطاء لتستأنف العمل في مطلع السنة الجديدة.
كان كل شيء حولها ينضح بالنشاط، العمل البحثي خلق داخلها إحساساً بالتغيير وكسر الروتين، تخرج في بعض الأيام إلى الجامعة لتطبيق نماذج استبيان على الطلبة والمدرسين والإداريين، كان عالمها هنا مختلف عن المدرسة وأجوائها الرتيبة، ورئيس المركز دفعها لتتمرن عبر دورات بحثية في مركز التدريب مثل دورة النجاح الوظيفي، دورة في التفكير الإيجابي، دورة في كتابة البحث العلمي.. الخ.
آفاق جديدة تأخذها إلى عالم أرحب، شحذ حوافزها بجموح وتوثب وإذا بها شعلة حماس، جمرة نشاط يكمن داخلها كل عناصر القوة لكن البيئة الملوثة اضطهدتها ورمتها بالتسفيه والسخرية، وقمعت فيها كل بوادر الطموح والرقي الوظيفي، أحبت عملها وتفانت فيه وأبدعت في إعداد برامج جديدة للمركز وأجرت بعض التعديلات، أعجب رئيس المركز بأدائها فرشحها لرئاسة القسم وبعثت هذه الترقية في حياتها شيئاً من التحدي فسعت إلى تغيير نمط عيشها وتبديل هيئتها واستظهار جمالها الكامن، ذهبت إلى الصالون وصبغت شعرها الأشيب وقصت شعرها بنموذج طفولي يبرز مواطن الجاذبية في ملامحها، ثم التحقت في نادي رياضي ومارست كل برامج التخسيس وفنون التجميل لاستعادة الحيوية والنضارة إلى بشرتها، فانصقل جسدها بشكل جديد، إنها (سمرة) جديدة بهيئة واثقة وبروحية متفتحة وكان الحصاد إحساسها بالتناغم والتصالح المحبب مع النفس، فإذا بها تشع حب وإيمان وثقة وتفاؤل، اختفت نظرات الإشفاق المذلة لشخصها وطرأت على من حولها رغبة جارفة في سبر أغوارها واستكشاف طويتها لكنها معرضة في كبرياء، متعالية في إباء، فكرت في ترميم حجرتها الخاصة وشراء أثاث جديد وستائر زاهية الألوان وأمها تتحفز إلى سؤالها عن هذا السر الدفين والانقلاب المفاجئ في حياتها و(سمرة) تجنح إلى استقلاليتها والتوحد بحياتها وهي سعيدة بهذا النهج، تعرف الآن كيف تفر من شبح الوحدة حينما يعصف بذهنها متخذة الجانب الإيجابي منفذاً لمعاناتها، وتمزق أغلال الكآبة عن روحها المختنقة سنين طويلة لتنطلق في دربها الجديد بتفاؤل وأمل.
ذات صباح جاءت بوجهها الناضح حيوية تشمخ باستعلائها على ضعفها، دعاها رئيس المركز أن تحضر إليه في مكتبه لأمر هام فظنت أنها عادته كل صباح يطلع على تقريرها المفصّل عن اجتماع اللجنة ويتابع نتائج الاستبيان الأخير الذي تم تطبيقه على طلبة المدارس الثانوية والذي أخذ منها وقتاً طويلاً.
بادرها بالسؤال عن نشاطها وهي تستجيب ببشاشة وانفتاح حتى تلكأ وهو ينحى بحديثه ناحية مختلفة تماماً عن طبيعة العمل، أطرقت وكان هاجسها صائباً فيما لهج به قلبها.
((لم أرَ في حياتي إنسانة ديناميكية وحيوية مثلك يا سمرة)).
غاصت في مقعدها حرجاًَ.
وتابع:
((أثرتِ إعجابي بشدة، فقد لمحتك ذات مرة وأنتِ تعملين بجميع حواسك)).
حدجته بنظرة دهشة وقلبها ينشرح من شدة السعادة.
ومضى يعبّر:
((تعرفين أني أرمل، توفت زوجتي قبل خمس سنوات ولي أبناء متزوجون وأعيش وحيداً أحتاج إلى إنسانة تقربني في الفكر والروح، حاضرة البديهة، نشيطة، تدخل البهجة إلى حياتي، وأنا لا أفكر بالإنجاب أبداً فلي أحفاد كثر يملؤن عليّ البيت في أيام الأجازات)).
كادت أن تقفز من فرط السعادة وانعقد لسانها من شدة الحرج.
((هل أضمن الموافقة)).
هزّت رأسها مستجيبة.
وتزوجت سمرة من مديرها وانتقلت لتعيش في بيته الفخم وكان خبر زواجها خبطة هزت الجميع وأذهلت قريباتها بل صرن يغمزن إليها بشيء من الحسد والغيظ.
هل حقاً أن العانس ليس لها محل في دنيا السعادة؟
استلقت على سريرها بعد أن خرج الزوّار من بيتها تفكر وابتسامة مشرقة تشق عتمة الليل وزوجها يرقد في سباته:
((إن هذا الإحساس السوداوي ينبع من ذات المرأة وهي تعيش جواً غائماً في ورحها فتعكس الصورة على الآخرين إنهم استضعفوها عندما اعتقدت في ذاتها أنها ضعيفة، واحترموها حينما احترمت ذاتها ومزقت شرنقة الكآبة البغيضة)).
وهكذا قررت (سمرة) أن تستعيض عن نظاراتها السوداء بأخرى وردية لتجد السعادة تنبع من داخلها ومن طريقة تفكيرها فقد أطلقوا عليها عانس عندما ظنت نفسها هكذا، وعرفوها ناجحة عندما أظهرت قدراتها..
بعد سنوات قليلة تقلدت منصب إدارة المركز حينما تقاعد زوجها.. وها هي الآن مديرة يُشار لها بالبنان والفخر طوّرت المركز بشكل مذهل وساعدت في تنمية النشاط البحثي في الوزارة.